«شبكة الحدود»... نسخر من جدّيّة العالم | حوار

من صفحة «شبكة الحدود» على فيسبوك

 

"عندما تُوَجَّه السخرية نحو الضعفاء لا تكون قاسية فحسب، بل مبتذلة... فالسخرية في الأساس هي سلاح الضعفاء في وجه الأقوياء"؛ هكذا كان رأي الكاتبة الأميركيّة الساخرة مولي إيفنز (1944-2007)، وهو الرأي نفسه الّذي يتقاطع مع سياسات «شبكة الحدود» الساخرة، الّتي انطلقت عام 2013 صفحة فيسبوك ساخرة، قبل أن تصبح مصدرًا موثوقًا للمفارقات الكوميديّة السوداء، في السياسة والصحافة العربيّة على حدّ سواء.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مع كلٍّ من عصام عريقات، رئيس تحرير «شبكة الحدود»، وعُلا الحجّ حسن، الكاتبة الساخرة وعضوة فريق «جائزة الحدود للصحافة العربيّة» (جحصع)؛ نتحدّث معهما عمّا تعنيه السخرية في السياق العربيّ، وعن الحدود الفاصلة بين السخرية بصفتها فعلَ تعليق سياسيّ، والسخرية بصفتها فعلًا تمييعيًّا للقضايا والأحداث السياسيّة، وكذلك عن موقع القضيّة الفلسطينيّة من سياسات «الحدود» التحريريّة.

 

فُسْحَة: ما السخرية؟ وما الكتابة الساخرة؟

عصام: أوّلًا، ثمّة مشكلة لغويّة دائمًا ما تُناقَش داخليًّا، فالسخرية كلمةً لا تعبّر بدقّة عن عمل الحدود الّذي يُشار إليه بالإنجليزيّة بالـSatire ، وهو المصطلح الأدقّ في رأيي؛ فكلمة السخرية ترتبط بالسخرية من شخص معيّن، أي كفعل مُتَعَدٍّ أكثر من كونها فعلًا لازمًا. سخرية «الحدود» أقرب إلى الفعل اللازم لأنّنا نحاول الحديث عن شيء، لا السخرية من أحد أو شيء بعينه. السخرية أسلوب كتابة، وهو أسلوب يزعج بعض الناس. ومن المهمّ التمييز بين عمل السخرية من توابع شيء والسخرية من الشيء نفسه. مثلًا، عادة ما ينزعج البعض عند الكتابة عن شخصيّة سياسيّة في بلد معيّن، ويكون وقع السخرية ثقيلًا عليهم، وتُؤْخَذ السخرية آنذاك كإهانة شخصيّة لذات الشخص باعتبار أنّه «سُخِرَ منه»، وذلك غير دقيق، بل الدقيق أنّه سُخِر ممّا حدث أو من الحدث المرتبط بهذه الشخصيّة. فَلْأَعُد إلى البداية؛ سأقول إنّ السخرية في مفهومنا الخاصّ الاحترافيّ هي الحديث عمّا يجري من أحداث وقضايا من وجهة نظر طريفة أو ساخرة بشكل أساسيّ.

عُلا: السخرية تسليط الضوء على المفارقات، لا أعتقد أنّ المنتج النهائيّ يجب أن يكون مضحكًا بشدّة بقدر ما يجب أن يكون تعليقًا ذكيًّا، يستوعب الشيء والواقع، ويدفع القارئ إلى التفكير وإدراك تفاهة بعض الأشياء كما هي موجودة في العالم.

 

فُسْحَة: كيف تميّز سياسات الحدود التحريريّة، بين الكتابة الساخرة والنكتة والنكتة المسيئة، وبين الكتابة الساخرة وبقيّة أنواع السخرية الأخرى كالـ Memes؟

عصام: يعتمد ذلك على نوعيّة الـMemes ، بعضها ساخر وبعضها الآخر مضحك؛ وذلك لا يعني أنّ المضحكة غير ساخرة وبلا أهمّيّة؛ فثمّة أناس يشتغلون على هذا النوع من السخرية بجدّيّة كبيرة، ويُنْتِجون تعليقات سياسيّة قويّة؛ وذلك هو نوع السخرية الّذي نحبّ التقاطع معه. في ما يتعلّق بقوانيننا التحريريّة، وهي ليست قوانين للسخرية بشكل عامّ، بل تشتغل على جعلنا دائمي الانتباه إلى طبيعة المحتوى الّذي ننتجه. وذلك جزء أساسيّ من عملنا الداخليّ؛ فهذه القوانين لم تُوْضَع عام 2013، عندما أطلقنا الحدود وقرّرنا العمل استنادًا إليها، بل هي قواعد تدرّجنا في استيعابها خلال عملنا؛ فعند طرح موضوع ما للسخرية نشعر بأنّه من غير الممكن الاقتراب منه، يحدث نقاش لمعرفة الموانع؛ لأنّه يفترض بنا أنّنا نُكَسِّر الخطوط الحمراء. يحدث ذلك عند محاولة السخرية من المعارضة السوريّة، نقول: حسنًا، لنسخر من هذا الشيء، لكن بحذَر عدم التماهي مع خطاب النظام السوريّ عن المعارضة السوريّة؛ كي لا تُسْتَخْدَم سخريتنا لشرعنة ما يفعله النظام في سوريا. إذن، نحن نسخر من الجميع وننتقد الجميع، لكن بوعي لكلّ الطرق الجانبيّة أو غير المقصودة، الّتي من الممكن من خلالها استغلال عملنا أو تطويعه لغايات لا نريدها.

 

فُسْحَة: في حوار سابق مع «الغارديان» البريطانيّة، قلتم إنّ النقطة الأكثر أهمّيّة في طبيعة المحتوى أن يكون مضحكًا، بغضّ النظر عن سوداويّة الواقع، وذلك ما يدفعني إلى التساؤل عن الخطّ الفاصل بين السخرية وتمييع القضايا العادلة، كالقضيّة الفلسطينيّة أو السوريّة، أو القضايا الجندريّة.

عصام: يتّضح الخطّ الفاصل من خلال نقاش الفريق الداخليّ، ومن خلال انتباهنا إلى وجهة النظر الّتي نحاول إيصالها، خاصّة في قضايا كالقضايا الجندريّة؛ عندما نقرّر مثلًا السخرية من بعض التيّارات النسويّة، نكون حذرين بما يتعلّق بالتوقيت، أو زاوية النقد، أو حتّى عدم السخرية في ذلك الاتّجاه أصلًا. كذلك نحاول دائمًا البقاء في حالة انتباه إلى أيّ إمكانيّة تمييع أو تسخيف للقضايا، لكنّ المشكلة تكمن في إمكانيّة اعتبار كلّ سخرية فعلًا من أفعال التمييع. ومع ذلك، ليس ثمّة خطّ فاصل بين السخرية والتمييع، بل فقط حالة وعي مستمرّة عند التطرّق إلى قضيّة، والتمييز بين القويّ والضعيف. «شبكة الحدود» أكثر من مجرّد أفراد، بل حالة عقليّة جمعيّة؛ ولهذا السبب لست قلقًا لمعرفتي أنّ جميع أعضاء الفريق لديهم إمكانيّة تحوّل السخرية إلى تسخيف، وذلك ما يظهر بشكل دائم في نقاشاتنا الأسبوعيّة التحريريّة. وكذلك يُسْهِم تنوّع فريق «الحدود» في كشف إمكانيّة تمييع القضايا، ففي كلّ مرّة ينضمّ عضو جديد إلى الفريق التحريريّ تشعر بأنّه أصبح عضوًا لا يمكن الاستغناء عنه؛ لأنّه يقدّم وجهة نظر كنّا غافلين عنها في السابق. الآن، تقريبًا نصف الفريق من الإناث، لكن أيضًا ثمّة تنوّع في الخلفيّات الهويّاتيّة والاهتمامات الشخصيّة.

 

فُسْحَة: هل ثمّة فرق بين السخرية الذكوريّة والسخرية النسويّة؟ وهل يمكن تطويع السخرية كآليّة نفسيّة للتطبيع مع قضايا جندريّة، كالعنف ضدّ النساء، من قِبَل القرّاء والكتّاب على حدّ سواء؟

عُلا: ثمّة بعض العناوين الساخرة، الّتي تتناول القضايا الجندريّة من وجهة نظر الرجل، وكيف يرى هو النساء، لكن بدوري كاتبةً ساخرة، كنت أريد التفكير في إمكانيّة كتابة ساخرة نسويّة تتناول الظواهر من وجهة نظر الأنثى، وكيف ترى هي الظواهر موضوع السخرية. فمن العناوين الّتي أحبّها، عنوان «دراسة: لا يمكن أنثى الإنسان الاستقلال؛ نظرًا إلى حاجتها إلى ذكر يخرج للصيد، وتحطيب الأشجار، وإشعال النار لطرد الحيوانات»؛ وفي المقال استخفاف مبالغ فيه بالنساء، ومديح للمنظور الذكوريّ، وذلك لإظهار المفارقة الساخرة من وجهة نظر ذكوريّة، تبرّر المنطق الذكوريّ الّذي يدّعي عدم قدرة النساء على العيش وحدهنّ. وثمّة أيضًا السخرية من العنف ضدّ المرأة أو مفهوم الشرف، لكن عند كتابتها من منظور الرجل، سيكون ثمّة دفع في اتّجاه المبالغة في كمّيّة العنف لتحويل الواقع إلى كوميديا سوداء، ولفت الانتباه إلى الظاهرة، وذلك ما أعارضه وأعتبره منطقًا ذكوريًّا يذهب في اتّجاه المبالغة في تصوير قوّة الطرف الأقوى. ثمّة كتابة ساخرة لا تتناول مسألة العنف ضدّ المرأة، من وجهة نظر الأنثى الّتي يُمارَس عليها هذا العنف، لكن من وجهة نظر الرجل الّذي ينظر من الخارج إلى هذه الظاهرة، وتلك هي طريقته في لفت انتباه الذكور إلى خطأ هذه الممارسات، لكن ثمّة كتابة ساخرة نسويّة تكتب عن المرأة من وجهة نظر الأنثى نفسها. وبما يتعلّق باستخدام السخرية كآليّة نفسيّة للتطبيع مع هذه القضايا، فأنا أشعر بأنّ العكس هو الصحيح؛ فعندما أشعر بأنّ عنوانًا يُسَخِّف بعض القضايا أقترح بديلًا له يثير الغضب، لكن تظلّ المشكلة أنّ الواقع في سوداويّته يجعل أيّ عنوان يبدو تسخيفيًّا وتمييعيًّا. الاحتلال الإسرائيليّ يشكّل مثالًا قويًّا على هذه المعضلة؛ فواقع الاحتلال يجعل أيّ سخرية تبدو تمييعيّة وتسخيفيّة. لكن بإمكان السخرية أن تكون أكثر من مجرّد سخرية، عند اللجوء إلى عنوان مثل: «مرور 73 عامًا على أطول تجربة في النسبيّة الأخلاقيّة»، وهو عنوان يُفْتَرَض به أن يكون نكتة، لكن عند التمعّن في سرده للتناقضات التاريخيّة، يمكن التفكير فيه ورقةً بحثيّة بأسلوب جادّ تستخدم أمثلة ومواقف ومعلومات حقيقيّة تقدّم للقارئ لتوضيح المفارقة، وفي الآن ذاته تتجنّب الاستهانة بالحدث التاريخيّ؛ أي النكبة.

 

فُسْحَة: هل يمكن القول إنّ واقع المنطقة الآن أكثر سوداويّة ممّا كان عليه عام 2013، عندما انطلقت «الحدود»؟

عصام: أعتقد أنّه لا يُقارَن، واقع اللحظة الحاليّة لا يُقارَن بواقع 2013، الأمور كانت خفيفة آنذاك. في ذلك الوقت كنّا بدأنا بعد عامين من محاولة بدء ربيع عربيّ في الأردنّ، ونحن نشعر بأنّنا نستطيع فعل شيء، قبل إدراكنا أنّنا لا نستطيع. كانت «الحدود» أقرب إلى محاولة للتعبير عن الذات، والحديث عن كلّ الأشياء الّتي خرجنا ضدّها عام 2011. لكن، في ذلك الوقت كانت التفاعلات في المنطقة أكثر بساطة منها الآن، وكلّ الحديث يدور عن الاستبداد والشموليّة، أمّا الآن فلا، ثمّة منطقة رماديّة ضخمة مقارنة بالأبيض والأسود آنذاك. هذا يضيف ضغطًا يتمثّل بضرورة الانتباه الشديد إلى ما يُكْتَب؛ لأنّه يمكن تأويله بأكثر من طريقة، وما هو أساسيّ في السخرية السرعة ووضوح النقد الّذي توجّهه، ووجهة النظر أو الجهة الّتي تسخر منها. ذلك كان ممكنًا عام 2013، لكنّه غير ممكن اليوم. لهذا السبب، تكون عناوين «الحدود» أطول ممّا نحبّ أن تكون، وإن كانت قصيرة فستتحوّل إلى تبسيطيّة، وتتعامل مع العالم كأنّه أبيض وأسود، وهو ليس كذلك على الإطلاق. لفترة طويلة حاولنا بجهد أن تكون العناوين قصيرة، لكنّنا اكتشفنا عدم إمكانيّة ذلك. والأهمّ من السرعة والبديهة التمكّن من قول الأشياء الّتي نريد، ففي النهاية، لا يتمحور عملنا حول إظهار مدى ذكائنا وسرعة بديهتنا، بل حول قول شيء ما.

 

فُسْحَة: يُظْهِر تقرير لموقع «The Big Issue» أنّ السخرية لم تَعُد صنعة بطيئة كما كان الحال في السابق؛ إذ يبدو أنّ السرعة الّتي يجري بها العالم حوّلت الوقت إلى عدوّ لصنّاع السخرية، فإن لم تفكّر في مزحتك على الفور، وتنشرها، فسيسبقك آخر إلى فعل ذلك. كيف تؤثّر السرعة في عمل «الحدود»؟ وهل ثمّة شعور بضغط يوميّ للخروج بالنصوص الساخرة؟ وكيف يؤثّر ذلك في جودة المحتوى وضرورة أن يكون مضحكًا؟

عصام: في الماضي كانت السرعة تؤثّر في عملنا وتخلق ضغطًا. كنّا نشتغل سبعة أيّام على مدار الأسبوع لنتمكّن من التعليق على كلّ شيء لحظة حدوثه، وكان ذلك ضارًّا جدًّا. الآن نحاول خلق توازن حتّى في المحتوى، وفي حال أردنا التعليق بسرعة على حدث ما، ثمّة نموذج «العاجل»، الّذي عادة ما يُنْشَر بعد ساعة على نشر الخبر الأساسيّ. لكن عدا ذلك، إن تمكّنّا من التعليق على حدث خلال أسبوع من لحظة وقوعه، فذلك جيّد بالنسبة إلينا. السرعة في نشر المزحة لا تهمّنا، لكن سرعة البديهة، والفطنة، والفكاهة هي الأشياء الّتي تهمّنا. وذلك يعود لسببين؛ الأوّل أنّ السخرية الّتي تُفْهَم ببطء وتخلق مفارقة في ذهن القارئ تكون مضحكة أكثر من السخرية السريعة. ثانيًا، النكتة السريعة لا تُحَفِّز عمليّة تفكير مطوّلة لدى القرّاء، لكن اللحظة الّتي تتمكّن فيها من تحفيز ذهن القارئ عندها ستدفعه إلى التفكير عميقًا وإدراك المفارقة الكامنة في النصّ. النكتة السريعة تعطي الجمهور الضحك السريع، تُقْرَأ فتُضحِك فتُنْسى. أمّا نحن فنحاول منح القرّاء شيئًا ليفكّروا فيه مع الضحك؛ في النهاية إذا أردنا العودة إلى سؤالك الأوّل حول ماهيّة السخرية، فهي الحديث عن شيء من وجهة نظر جديدة، تمنح القرّاء وجهة نظر تدفعهم إلى التفكير في الشيء نفسه بطريقة مختلفة، وهذه هي السخرية الناجحة. النكتة الجاهزة لا تستطيع فعل ذلك.

 

فُسْحَة: قبل ما يزيد على ثلاثة أعوام من الآن، ظهرت «جائزة الحدود للصحافة العربيّة» (جحصع) الّتي تُمْنَح لأسوأ الموادّ الصحافيّة العربيّة، الّتي تسلّط الضوء على الإخفاقات المهنيّة المستمرّة الّتي تمارسها الصحف العربيّة عبر مختلف وسائل الإعلام. هل هي استجابة لواقع أنّ الأخبار الحقيقيّة أصبحت هي نفسها أخبارًا ساخرة؟

عصام: فكرة «جحصع» ظهرت عام 2015 من سؤال: لماذا لا نؤسّس جائزة للصحافة العربيّة؟ وفي البداية كانت الفكرة نابعة من منطق الـ Irony، وهو أيضًا نوع من أنواع السخرية الّتي تأتي بمعنى «المفارقة الساخرة»؛ والمفارقة الساخرة أنّ «الحدود»، شبكة الأخبار الساخرة غير الحقيقيّة، يبدو أنّها تأخذ عملها على محمل الجدّ أكثر كثيرًا من المؤسّسات الصحافيّة العريقة. وبما أنّ عمل الحدود تسليط الضوء على المفارقات، شعرنا بأنّ جائزة للصحافة العربيّة السيّئة ستكون في صلب عملنا؛ أي توضيح المفارقة الصحافيّة الساخرة والإخفاقات المهنيّة الموجودة في الصحافة العربيّة. ومن السخرية أنّ المؤسّسة الصحافيّة الساخرة غير الجادّة هي الّتي تتابع وتحاسب المؤسّسات الصحافيّة الجادّة الّتي تضمّ مئات الصحافيّين المتمرّسين على أخطائها. أعتقد أنّ المفارقة في حدّ ذاتها كانت كافية لإطلاق «جحصع».

 

فُسْحَة: كيف تعمل «جحصع»، وتحديدًا في الرصد الإخباريّ؟ وما الأثر المرجوّ للجائزة في الصحافة العربيّة وقاعدة قرّائها؟

عُلا: عندما نفكّر في تغطية حدث ما، نفكّر في سؤال إن كان تأثير تغطيته الإعلاميّة أقوى من تأثير الحدث نفسه، أو إن كانت التغطية الإعلاميّة، وما يرافقها من كذب وبروباغندا، أخطر على القارئ العربيّ من الحدث نفسه. في بعض الأحيان نقرّر متابعة الحدث وكذلك تغطية تغطيته الإعلاميّة. وفي أحيان أخرى تكون القضيّة غير مهمّة في حدّ ذاتها، لكنّ تغطيتها الإعلاميّة مليئة بالخروقات المهنيّة الّتي يجب تحويل الانتباه إليها. في قضيّة «فتيات تيك توك» المصريّة، اللواتي حُبِسْنَ على خلفيّة نشاطاتهنّ على الإنترنت، ذهبنا في الاتّجاهين، فاشتغلنا على مادّة تتناول التغطية الإعلاميّة، وأخرى عن الحدث نفسه. في البداية كانت قضيّة «فيرمونت» الشهيرة الّتي تدور حول اغتصاب فتاة مصريّة في فندق، من قِبَل مجموعة شباب أُطْلِقَ سراحهم، ولم يُدَنْ أيّ منهم، فخرجنا بعنوان يجمع القضيّتين، وكتبنا أنّ القضاء المصريّ يجد «فتيات تيك توك» مذنبات باغتصاب فتاة «الفيرمونت»، ومن ثمّ اشتغلنا على ملفّ يتناول التغطية الإعلاميّة المصريّة لقضيّة «فتيات تيك توك» اللواتي جرت شيطنتهنّ إعلاميًّا، والترويج لفكرة أنّ حبسهنّ حماية للمجتمع من شرورهنّ. في مادّة كنّا نوجّه نقدًا ساخرًا من تعامل الدولة والنظام القضائيّ مع الحدثين، وفي أخرى كنّا نوجّه نقدًا ساخرًا للإعلام الّذي حاول الترويج وتبنّي خطاب الدولة الأخلاقيّ والقيميّ الداعم لهذه الممارسات القمعيّة. في «جحصع» نحاول دائمًا مضايقة الصحف والمؤسّسات الصحافيّة، من خلال تصحيح الأخبار وتغطياتهم الإخباريّة. لكنّ أكثر ما يؤثّر في القرّاء تسليط الضوء على الخروقات المهنيّة للصحف والمؤسّسات الإعلاميّة الكبرى مثل «رويترز» و«BBC» العربيّة، حيث يكون التفاعل أكثر من قاعدة القرّاء، وهو ما يهمّنا أكثر من تفاعل المؤسّسات نفسها واستجابتها لنقدنا. بالطبع نفضّل لو استجابوا للنقد الموجّه إليهم، وصحّحوا خروقاتهم المهنيّة، لكنّ فرص حدوث هذا شبه معدومة. مع ذلك، من الجيّد التعويل على قليل من الضمير المهنيّ، رغم أنّ ذلك يظلّ مستبعدًا. هم أقوياء بقاعدة قرّائهم الّذين يصدّقونهم؛ ولذلك نحن نخاطب القرّاء، وذلك هو الأثر المرجوّ؛ أي دفع القرّاء إلى عدم أخذهم على محمل الجدّ، والتشكيك في كلّ ما يقرؤونه، وتطوير ملكة النقد الذاتيّ المستقلّة عن البروباغندا الإعلاميّة.

 

فُسْحَة: بالنظر إلى الجدّيّة المفرطة الّتي تؤخذ بها كلّ المسلّمات في المنطقة، يمكن القول إنّنا نعيش في ما يسمّيه الروائيّ التشيكيّ ميلان كونديرا بـ «عصر الكيتش»، حيث كلّ شيء يؤخذ على محمل الجدّ: الدولة، والأمّة، والجيش، ومسيرات القضايا الكبرى الوطنيّة، لكن أيضًا الكيتش حاضر على المستوى الفرديّ في مشاعر الذكورة والرجولة، ثمّ تأتي «الحدود» وتحطّم هذه الكيتشات فوق بعضها، تسخر من بعضها ومن متعلّقاتها أو تمظهراتها، وهنا يبدأ شعور الأفراد أو حتّى الجماعات بالإهانة الشخصيّة والعقائديّة؛ لكن، ما الّذي تعطيه «الحدود» في المقابل؟ ما الرأي الّذي تحاول صناعته؟

عصام: ما الّذي نحاول فعله؟ أعتقد أنّ الإجابة عن هذا السؤال تعيدنا إلى مبادئ «الحدود» الأحد عشر، وبشكل خاصّ المبدأ الثالث الّذي يؤكّد إدراكنا لوجود الكثير من الإيجابيّات من حولنا، لكن مهمّة السخرية الإضاءة على مواقع الخلل، والخامس الّذي يشير إلى أنّ السخرية عمل نقديّ، وهذا هو الجزء الأهمّ في تشخيص المشكلة قبل علاجها، لكن، ليس من مهامّنا تقديم خطّة خمسيّة أو خريطة طريق للخروج من أزمة سياسيّة أو اقتصاديّة. إذن، ما نفعله تفكيك المشاكل، لكنّ تقديم الحلول مهمّة أكبر وأصعب وليست في نطاق عملنا. لكنّنا نأمل أن يلهم عملنا أناسًا آخرين أقدر على تقديم الحلول أو وجهات النظر البديلة. في النهاية نحن مؤسّسة إعلاميّة، وعملنا إلقاء الضوء على ما يحدث، وربّما تقديم وجهتَي نظر تساعدان في توضيح مكامن الخلل ليس أكثر.

 

فُسْحَة: هل تضع «الحدود» الأفراد في مأزق عقائديّ أو وجوديّ عند السخرية من كيتشاتهم؟

عُلا: ذلك ما تطمح «الحدود» إلى فعله؛ فهدفنا الأسمى الدفع بالأفراد إلى التساؤل عمّا إذا كانت معتقداتهم صحيحة بالطريقة الّتي يعتقدون أنّها كذلك، وإلى التشكيك في هذه المعتقدات والأفكار. لكنّي أعتقد أنّ البعض سيفضّل دائمًا الدفاع عن معتقداتهم، بدلًا من الوقوف أمام مرآة الذات ومساءلتها؛ فمن الأسهل دائمًا الدفاع عمّا نؤمن به بدلًا من أن نعلن، ولو لأنفسنا، أنّنا لا نعرف بما فيه الكفاية لنؤمن بالشيء، ومَنْ يفعل ذلك فهو القارئ المثاليّ بالنسبة إليّ، القارئ القادر على التشكيك ومساءلة ذاته.

 

فُسْحَة: أيمكن أن تكون «الحدود» دعوة إلى عدم أخذ العالم على محمل الجدّ، أم عدم أخذه على محمل الجدّ كما تقدّمه لنا الخطابات الإعلاميّة والأيديولوجيّة؟

عصام: تلك فكرة جميلة، لكنّ رأيي الشخصيّ، نعم، من المؤكّد أنّنا يجب ألّا نأخذ أيّ صنم من الأصنام المقدّمة لنا على محمل الجدّ من مؤسّسات وكيتشات، وذلك أمر مفروغ منه. لكن، على مستوًى شخصيّ، يجب إيجاد نوع من التوازن؛ فالعيش في درجة مفرطة من الجدّيّة أمر مرهق، لكنّها ليست دعوة إلى عدم أخذ الحياة بكلّيّتها على محمل الجدّ، بل فقط، عدم العيش في درجة مفرطة من الجدّيّة.

عُلا: لا أوافق على الجزئيّة الأولى، لكنّي أعتقد أنّها دعوة إلى عدم التفكير في المعتقدات الشخصيّة على أنّها مسلّمات، وأيضًا عدم التعامل بجدّيّة مع البروباغندا الصادرة عن الدولة والمؤسّسات الإعلاميّة. كذلك عدم أخذ الخطابات الرسميّة على محمل الجدّ، والتعامل مع الحدث نفسه، والتفكير في تغطيته الإعلاميّة بشكل منفصل عنه، ونحن نرى كيف تُقَدَّم الأحداث وتُؤَوَّل لتتلاءم مع الخطابات السياسيّة الرسميّة. أعتقد هي دعوة إلى التمعّن في المفارقات الكوميديّة البسيطة الموجودة حولنا، والانتباه إلى وجودها.

 

فُسْحَة: منذ شهرين والأحداث في فلسطين لا تتوقّف، بداية من «هبّة القدس» الأخيرة، الّتي لا تزال مفاعيلها مستمرّة حتّى الآن، وصولًا إلى الاحتجاجات الشعبيّة على اغتيال الناشط نزار بنات من قِبَل أجهزة أمن السلطة الفلسطينيّة؛ كيف تعاملت «الحدود» مع هذه الأحداث؟ وبالعموم، أين تقع القضيّة الفلسطينيّة من عمل «الحدود»؟

عصام: فلسطين هي قضيّتنا، أنا فلسطينيّ، أبي من القدس وأمّي من اللدّ، و«الحدود» بدأت في الأردنّ، ولدينا ارتباط مباشر بالقضيّة الفلسطينيّة. فلسطين خلال الهبّة وقبلها تمثّل كلّ المبادئ الأساسيّة الّتي ندافع عنها، وكلّ الأشياء الّتي نقف ضدّها؛ من احتلال وشموليّة وانتهاكات حقوق الإنسان. المشكلة تبدأ عند محاولة مخاطبة الجيل الجديد خارج بلاد الشام ومصر، وهو الجيل الّذي يمكن رؤية معرفته الضئيلة بالقضيّة الفلسطينيّة. لمخاطبة هذا الجيل، علينا العودة إلى أساسيّات الصراع، فثمّة كمّ هائل من البروباغندا الّتي تروّج، بمفارقة ساخرة، لدولة ديمقراطيّة تعاني من السكّان الأصلانيّين! لكن، بشكل عامّ، عادة ما نركّز على الأحداث الّتي تجري في اللحظة الحاليّة؛ فذلك يفسح لنا مجالًا أوسع للغوص في التفاصيل الّتي تمنح القرّاء رؤية لما يجري، وليس مجرّد سخرية عابرة من إسرائيل على سبيل المثال؛ فمن الضروريّ - كما سبق أن ذكرت - أن تمنح السخرية وجهة نظر للقرّاء، تلك هي السخرية الفعّالة، وذلك ضروريّ لأنّ أغلبيّة الناس بلا آراء قويّة تجاه الكثير من القضايا، هم على الحافّة بوعي هشّ يُفْقِدُهُم القدرة على المحاجَجَة اللازمة للدفاع عن القضايا. والسخرية الفعّالة يمكنها أن تكون سلاحًا لأولئك غير القادرين على المحاجَجَة وأخْذ موقف من القضايا؛ فالسخرية قادرة في بعض الأحيان على توضيح مفارقات الواقع، وتفكيك الخطابات الرسميّة وغير الرسميّة، لكشف ما يجري على الأرض بالفعل. وبالعودة إلى سؤالك، نحن حاولنا تغطية الأحداث من أكبر عدد ممكن من الزوايا؛ لأنّ ما تفعله إسرائيل يمثّل كلّ شيء وُجِدَت «شبكة الحدود» لتكون ضدّه.

 

فُسْحَة: «نحو مستقبل ما»، هو شعار «الحدود» منذ عام 2013؛ كم اقتربنا أو ابتعدنا عن هذا المستقبل؟

عصام: أنت تسألني كم اقتربنا من اللانهاية! أعتقد أنّنا دائمًا ما فكّرنا بصعوبة في أن تسوء الأمور أكثر ممّا هي عليه، لكنّها تستمرّ في التدهور من سيّئ إلى أسوأ. مع ذلك، ثمّة بعض الأشياء الّتي تمنح الأمل بين الحين والآخر، كالهبّة الأخيرة في فلسطين، الّتي كانت واحدة من الأشياء القليلة الّتي سارت عكس تيّار الذهاب البطيء نحو الهاوية. ثمّة أشياء صغيرة تمنح الأمل، كفلسطين، لكنّ الإنسان دائمًا ما يتوجّب عليه التعامل بحذر مع الأمل. ومع ذلك، يظلّ الأمر حاضرًا دومًا، الأمل بأن تتحسّن الأوضاع، لكن دون تعويل حقيقيّ، فقط لنتمكّن من النوم ليلًا.

 

 


أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث. حاصل على البكالوريوس في العلوم السياسيّة، والماجستير في برنامج الدراسات الإسرائيليّة من جامعة بير زيت. نشر العديد من المقالات في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة في الأدب والسينما والسياسة.